“كابريس” / إنجاز: المصطفى العياش ــ خالد بدري
في سياق اجتماعي وسياسي يتسم بتزايد حدة التحديات المرتبطة بالقدرة الشرائية وبمطلب تحسين الأداء العمومي، ووسط تصاعد النقاش حول نجاعة السياسات الحكومية، تشكّلت نواة تنسيقية بين أربعة أحزاب من المعارضة البرلمانية: حزب التقدم والاشتراكية، حزب العدالة والتنمية، حزب الحركة الشعبية، وحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية. هذه النواة كانت قاب قوسين أو أدنى من تحويل تفاهماتها إلى ملتمس رقابة مشترك، في خطوة كانت ستعيد ترتيب موازين العمل البرلماني وتمنح المعارضة موقعاً فاعلاً في معادلة التقييم والمساءلة.
غير أن مجريات التحضير لهذا الفعل الرقابي كشفت عن تباينات مبطنة سرعان ما خرجت إلى العلن، خصوصاً بعد أن اختار الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية الانسحاب في اللحظات الأخيرة دون بلاغ رسمي أو توضيح سياسي صريح، ما أضعف التنسيق وأربك ملامح الجبهة المعارضة. انسحابٌ فسّره كثيرون بأنه تموقع حذر، ينأى بالحزب عن معركة جماعية لا يضمن سياقها، لكنه في العمق أعاد طرح سؤال جوهري حول مدى نضج الفعل الوحدوي داخل المعارضة.
وبهذا الانسحاب، ساهم الاتحاد الاشتراكي، بوعي أو بدون تخطيط مسبق، في تبديد فرصة سياسية رمزية كانت ستمنح المعارضة موقعاً أقوى في معادلة المراقبة البرلمانية، وأعاد إلى الواجهة معضلة بناء جبهة موحّدة تتجاوز منطق التردد وتنتصر لمنهجية العمل المؤسساتي الجماعي.
في زمن تزداد فيه الحاجة إلى معارضة قوية ومتماسكة، قادرة على مساءلة الحكومة بصرامة وبُعد نظر، اختارت مكونات من المعارضة أن تنكفئ على ذاتها، وتغرق في تفاصيل الحسابات الصغيرة، مُفرطة في لحظة سياسية كان من الممكن أن تعيد التوازن إلى المشهد المؤسساتي، وتُعيد ثقة المواطن في جدوى المعارضة البرلمانية. لحظة إسقاط الحكومة عبر ملتمس رقابة، حتى وإن كانت شكلية في مآلاتها الدستورية، كان يمكن أن تكون منصة رمزية قوية لطرح بدائل واقعية وكشف اختلالات التسيير الحكومي. لكن الواقع أبان عن شيء آخر: عجز سياسي، وانفلات في التنسيق، وتهافت على الزعامة داخل فضاء المعارضة نفسها.
وقد بدت المعارضة، في لحظة مفصلية، وكأنها وقعت في فخ الزعامة الفردية، حيث تحوّل النقاش من مضمون ملتمس الرقابة إلى منطق “بوحدي نضوي لبلاد”، وكأن كل طرف يطمح لأن يكون النور الوحيد وسط العتمة، ناسياً أن البلاد لا تنير بفرد، بل بجبهة عقلانية، موحدة الرؤية.
إن استحضار هذا المنطق الفرداني في العمل السياسي لا يخلو من مخاطر كبرى، أهمها تعميق الشروخ داخل الفضاء المعارض، وتغليب الكاريزما على المؤسسات، والطموح الشخصي على الفعل الجماعي. فعندما تتحول لحظة المساءلة إلى مناسبة لتسجيل النقاط أو إثبات الأسبقية، يصبح ملتمس الرقابة مجرد خلفية لمسرحية تنازع المواقع. وهنا تبرز إشكالية الثقافة السياسية داخل المعارضة: هل نريد معارضة تشتغل بمنطق الفريق أم بمنطق الفرد المخلّص؟
إن منطق “بوحدي نضوي لبلاد”، رغم ما فيه من حماسة وشاعرية، لا يصلح في سياق برلماني يفرض التوافق والتنسيق والاشتغال ضمن هندسة جماعية. وبهذا المعنى، فإن الانسحاب من ملتمس الرقابة ليس فقط موقفاً تقنياً، بل تعبير عن أزمة في تصوّر العمل المشترك، وعن هشاشة في بناء الجبهة المعارضة، المفترض فيها أن تتجاوز الحساسيات الحزبية، لصالح هدف أوحد: التوازن المؤسساتي والدفاع عن المواطن.
إن ما وقع ليس مجرد انسحاب فريق برلمانيي الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية من إجراء رقابي دستوري، بل هو عنوان كبير على غياب الرؤية الجماعية، وانهيار الثقة بين مكونات يُفترض أنها تجتمع على رفض السياسات العمومية المعتمدة. وبدل أن تشتغل المعارضة على صياغة محتوى متين لملتمس الرقابة، يؤسس لمرافعة سياسية أمام البرلمان تُدخل الحكومة إلى محك المساءلة، وجدت نفسها في زوبعة من الاتهامات المتبادلة، واتهام ضمني لمنطق “احتكار المعارضة”.
لم يكن الرأي العام ينتظر من المعارضة أن تُسقط حكومة تتمتع بأغلبية رقمية مريحة، فهذا أمر تدركه كل الفئات الواعية، لكن الانتظارات كانت تتمثل في موقف موحد يضع الحكومة في الزاوية الحرجة، ويذكرها ـ على الأقل ـ بأن الشارع لا زال حيًّا، وبأن البرلمان ليس فقط رقماً في معادلة الصمت السياسي. لكن مشهد التراشق الإعلامي، وتغليب منطق الغنيمة السياسية، قدّم دليلاً مكرراً على أن جزءاً من المعارضة ما يزال مسكوناً بمنطق المقاعد لا المبادئ، وبالزعامة لا البرنامج.
لقد أدخل هذا الانسحاب، بكل تداعياته، الجسم المعارض في حالة شرود سياسي، ستكون لها كلفة باهظة في المستقبل القريب، خاصة ونحن على أبواب الانتخابات التي يُنتظر أن تفرز “حكومة المونديال”. فالمواطن المتتبع، الذي كان يأمل أن يرى تقاطعات بين أحزاب المعارضة من أجل مصلحة الوطن، فوجئ بخلافات تكشف ضعف البنية التنظيمية والافتقار لمنهجية تشاركية واضحة، بل وجد نفسه أمام معارضة تُضيع فرصة التنسيق الجبهوي لتقديم بدائل حقيقية، وتُقايض اللحظة السياسية بطموحات شخصية أو حزبية ضيقة.
لقد كانت مكونات المعارضة مطالبة بتقديم مضمون بديل لسياسات الحكومة، لا الدخول في لعبة “من يقود”، وكان يمكن أن تتحول هذه المبادرة إلى لحظة تعبوية وطنية، خاصة في ظل التذمر الشعبي من غلاء المعيشة وتراجع القدرة الشرائية واتساع الهوة الاجتماعية. غير أن المعطى الذي أفرزه الانسحاب أعاد التأكيد على أن الخلافات الثانوية ما زالت أقوى من أي التقاء موضوعي بين مكونات المعارضة، بما فيها من يحمل مرجعية يسارية أو مرجعية إسلامية أو مرجعية وسطية، وهو ما يطرح سؤالاً جوهرياً: من يعارض من؟ وعلى أي أساس؟
لسنا هنا بصدد محاكمة النوايا، ولا الخوض في خلفيات الانسحاب، التي قد تكون مفهومة ضمن حسابات كل طرف، لكننا نثير بإلحاح نقطة جوهرية: هل تملك المعارضة الحالية ما يكفي من الجرأة السياسية لتجاوز منطق رد الفعل والانتصار اللحظي، وبناء جبهة معارضة عقلانية تكون البديل الحقيقي، لا فقط الصوت العالي؟
إن انهيار محاولة تقديم ملتمس الرقابة، بهذا الشكل الفوضوي، ليس فشلاً تكتيكياً فقط، بل مؤشرٌ مقلق على هشاشة الثقافة الديمقراطية داخل المعارضة نفسها. وهي دعوة صريحة لكل الأحزاب، أغلبية ومعارضة، لإعادة النظر في طبيعة خطابها السياسي، وفي طريقة تواصلها مع الرأي العام، قبل أن تجد نفسها خارج اهتمام المواطنين الذين اكتشفوا ـ مرة أخرى ـ أن المعارضة، مثل الحكومة، قد تفرط في اللحظة وتغيب عن الموعد.
وفي خضم هذا المشهد، تبقى المسؤولية السياسية أكبر من مجرد ملتمس رقابة لم يُقدَّم، بل تتعلق بمستقبل مؤسسة المعارضة نفسها، كفضاء دستوري لا يكتفي بالنقد، بل يطرح البدائل. وإن لم تستطع هذه المعارضة بناء وحدة الموقف والهدف، فما الذي يمكن أن تنتظره من المواطنين خلال الاستحقاقات المقبلة؟
غير أن السياسة، كما يعلم الراسخون فيها، لا تُبنى فقط على المحطات الضائعة، بل على القدرة المستمرة في التقاط الفرص المقبلة. ومن هذا المنطلق، لا يزال في الإمكان ترميم ما تَصدَّع، والعودة إلى منطق الجبهة الموحدة، لأن المواطن لا يهمه من يقود، بقدر ما يهمه من يُقنع. وعلى المعارضة، بكل أطيافها، أن تعي أن لحظة “ملتمس الرقابة” ليست سوى جرس إنذار أول، وأن استمرار التشتت لن يُنتج سوى مزيد من العزوف والمفارقة السياسية.
فهل تعود المعارضة إلى رشدها المؤسساتي؟
هل تُغلب منطق الاتحاد على نزعة التفرُّد؟
وهل تفهم، ولو متأخرة، أن البلاد بحاجة إلى جبهة يقظة، لا إلى أصوات متفرقة؟
ذلك هو السؤال… وتلك هي الفرصة الأخيرة.
