افتتاحية كتبها المصطفى العياش سكرتير تحرير “كابريس”
لم يكن انسحاب الدكتور سعد الدين العثماني، رئيس الحكومة الأسبق، من مدرج جامعي إثر احتجاج طلاب جامعة تطوان، حدثًا عابرًا أو لحظة طارئة يمكن طيها ببساطة. ما وقع أمام الطلبة، ووسط مؤطرين جامعيين، حمل في طيّاته إشارات أبعد من مجرد رفض شخصية سياسية لإلقاء عرض أكاديمي. لقد كانت تلك اللحظة صادمة في دلالتها، قوية في رمزيتها، لأنها تكشف عن فجوة متنامية بين النخبة التي أدارت الشأن العام في العقد الماضي، والجيل الجديد الذي يُعيد طرح الأسئلة دون مجاملات.
سعد الدين العثماني ليس اسمًا عاديًا في السياق السياسي. هو رجل الدولة الهادئ، المتدرج في المؤسسات، الذي جمع بين رزانة الطبيب النفساني، وهدوء السياسي المتريث. تقلّد وزارة الخارجية، ثم تحمّل مسؤولية رئاسة الحكومة في مرحلة صعبة، بين تداعيات الحراك الإقليمي وأزمات الجائحة. ومع ذلك، ظل يحتفظ بنبرة متواضعة، لا تصنع الضجيج، لكنها لا تفتقد إلى وضوح القرار.
غير أن ما حصل له داخل فضاء الجامعة يطرح سؤالًا مُقلقًا: هل يُعاقب الرجل على توقيع اتفاق سياسي في ظرف دولي معقّد؟ أم يُحاسب فقط لكونه ينتمي إلى جيل سياسي بدأ يخسر ما تبقى له من رصيد الثقة؟ وهل فعلاً هناك من أراد من الطلبة أن يتحولوا إلى محكمة أخلاقية؟ أم أن المشهد الجامعي نفسه لم يعد يتحمل رموز السياسة، أياً كانت خلفياتهم؟
من زاوية أعمق، ما وقع للعُثماني ليس معزولًا عن التوتر الداخلي الذي يعيشه حزب العدالة والتنمية. فالرجل الذي قاد الحزب بهدوء بعد مرحلة صاخبة، لم يكن يحظى فقط باحترام أبناء الحزب، بل كان يُنظر إليه كصوت توافقي داخل منظومة تتأرجح بين الواقعية والمزايدة. ورغم صمته بعد الانتخابات، ظل يحتفظ بقدرة خافتة على التأثير.
وفي مقابل هذا الخط المحافظ، يُواصل عبد الإله بنكيران ـ الأمين العام الحالي ـ دفع الحزب نحو مناطق التوتر، بخطاب يزداد خروجه عن الانضباط المؤسساتي، خاصة في خرجاته الأخيرة التي لم تتوانَ عن انتقاد المؤسسة العسكرية، في وقت يتطلب فيه المشهد السياسي من الأحزاب الوطنية تعزيز الإجماع، لا التشويش عليه.
ومن هنا تحديدًا، تظهر المفارقة: حزب العدالة والتنمية، الذي دخل دهاليز المعارضة بعد نكسة 2021، يجد نفسه اليوم أمام مفترق طريق. فبين مَن يدفع نحو الصدام، ومَن يدعو إلى التوازن، تظهر الحاجة إلى قيادات من طينة العثماني، حتى ولو اختلف معه البعض في المواقف أو التأويلات.

ليس من المبالغة القول إن جزءاً من قواعد الحزب، بل ومن الرأي العام المتابع، بات يرى في عودة العثماني إلى قيادة الحزب فرضية واقعية، في ظل تواتر خرجات بنكيران المثيرة للجدل. ومع أن الحزب لطالما تغذّى على الكاريزما القوية، إلا أن المرحلة قد تحتاج إلى العودة إلى صوت التهدئة والاشتغال العقلاني، لا إلى الاستعراض الخطابي والمواقف الحادة.
إن الجامعة التي أغلقت أبوابها في وجه العثماني، فتحت ـ من دون أن تدري ـ باباً واسعاً لإعادة تقييم علاقة الشباب بالسياسة، كما فتحت النقاش مجدداً داخل حزب العدالة والتنمية: من يمثل الرصيد المؤسسي؟ ومن يجسد منطق الدولة؟ ومن يمتلك اليوم القدرة على استعادة ما تبقى من المصداقية السياسية؟
الأسئلة مفتوحة، والجواب قد لا يأتي سريعاً. لكن الأكيد أن لحظة المدرج الجامعي لم تكن فقط لحظة سقوط ضيافة، بل كانت لحظة مفصلية لطرح سؤال القيادة، وتحديد المسار المقبل لحزب لم يعد يحتمل ازدواجية الخطاب، ولا عبء المفارقة بين الحكمة والتهور.