المصطفى العياش متخصص في القضايا الوطنية
لم تكن خرجة عبد الإله بنكيران الأخيرة مجرّد موقف سياسي عابر يمكن استيعابه تحت مظلة حرية التعبير، بل كانت تحوّلاً خطيراً في منطق تدبير الخطاب الحزبي، انزلق فيه إلى التجرؤ على اختصاصات مؤسسة الجيش، بل بلغ به الأمر حدّ إطلاق أحكام دينية وفتاوى فقهية في أمور تمس السيادة الوطنية وقرارات صادرة عن القيادة العليا للقوات المسلحة الملكية.
إن ما قاله بنكيران بخصوص مشاركة عناصر من الجيش الإسرائيلي في مناورات عسكرية ببلادنا، ليس فقط خارج السياق، بل خارج الدستور ومبادئ الدولة الحديثة. فمن جهة، يُعتبر القائد الأعلى ورئيس أركان الحرب العامة للقوات المسلحة الملكية هو جلالة الملك محمد السادس، ولا يحق لأي فاعل حزبي أو مدني أن يُدخل المؤسسة العسكرية في تجاذبات سياسية. ومن جهة أخرى، فإن منطق الفتوى والتحريم لا مكان له في مجال العلاقات الدولية والتحالفات الاستراتيجية التي تُبنى على أسس دقيقة من السيادة والمصلحة الوطنية العليا.
خطاب بنكيران ليس زلّة لسان، بل توجّه عدائي لثوابت الدولة
حين يصف بنكيران مشاركة تلك القوات بـ”غير الجائزة شرعاً وديمقراطياً”، فإنه لا يُدلي برأي سياسي، بل يطلق حكماً دينيًا وأخلاقيًا على قرار سيادي للدولة. وهذا أخطر ما في المسألة: أن يتحول الزعيم الحزبي إلى “مفتي سياسي” يتحدث باسم الدين لإدانة توجهات الدولة.
نحن أمام خلط خطير بين الديني والسياسي، بين الشخصي والمؤسساتي، بين منطق المعارضة ومنطق التهديد. والأخطر من ذلك، أن هذا الخطاب لا يُعبّر عن اجتهاد فردي فقط، بل يتم الترويج له باسم الأمانة العامة لحزب سياسي سبق له أن قاد الحكومة لولايتين، ما يطرح تساؤلات كبرى حول البوصلة الفكرية والسياسية التي بات الحزب يتحرك بها اليوم.
ما العمل؟ وهل نبقى في موقع المتفرج؟
إن السكوت عن مثل هذه التجاوزات لم يعد ممكناً. ولأن هذا الأمر لا يتعلق فقط بحرية التعبير أو الاختلاف السياسي، بل بمسّ مباشر بجوهر الدولة وبهيبة مؤسساتها، فإننا نطالب قيادة حزب العدالة والتنمية بتحمل مسؤوليتها التاريخية: إما أن تخرج بقرار صريح يُراجع هذا الانزلاق الخطير ويُوقف بنكيران عند حدّه، أو أن تصطف وراءه وتتحمل تبعات الاصطدام مع المؤسسة الدستورية العليا ومع الرأي العام الوطني.
وفي حال استمرار هذا التواطؤ أو التخاذل، فإن على الدولة، بكل مؤسساتها، أن تتحرك في إطار القانون والدستور من أجل حماية الأمن الفكري والسياسي للبلاد، وصيانة هيبة المؤسسات السيادية من التحقير أو التجريح باسم حرية الرأي أو التعبير.
التحدي قائم، والخطاب الذي يتخفى وراء الدين لضرب الدولة لا يمكن أن يمر بصمت
إن بنكيران، بتصريحاته الأخيرة، يتحدى الدولة، ويتحدى منطق السياسة المتعقلة، ويريد أن يُعيدنا إلى زمن ازدواجية الخطاب وتوظيف الدين في صراعات حزبية ضيقة. وهذا ما لا يمكن القبول به بعد كل ما راكمته بلادنا من مكاسب في الإصلاح، والانفتاح، وتحقيق الاستقرار.
وفي هذا السياق، فإن الرد يجب أن يكون بحجم التحدي: سياسيًا، قانونيًا، وأخلاقيًا. لأن صمت العقلاء في مثل هذه اللحظات، ليس حكمة، بل خيانة لصوت الوطن.
العياش المصطفى
سكرتير تحرير “كابريس“
