بقلم : المصطفى العياش /كابريس
بقلوب مؤمنة بقضاء الله وقدره، وبحزن عميق، ودّعت الساحة الإعلامية الوطنية واحدًا من أعمدتها الكبار، وقيدوم رجالها الأوفياء، الأستاذ عبد السلام البوسرغيني، الذي أسلم الروح إلى بارئها عن عمر ناهز التسعين عامًا، بعد حياة مهنية حافلة ومسيرة طويلة طبعتها النزاهة، المهنية، والدفاع المستميت عن قيم الصحافة الوطنية.
لحظات لا تُنسى مع عبد السلام البوسرغيني
أشارك ذكريات ثمينة مع صحافي قلّ نظيره، الأستاذ عبد السلام البوسرغيني، الذي كان لي أخًا وزميلاً في جريدة «رسالة الأمة» في بداية الثمانينات، حيث تعلمت منه معنى الالتزام بالمهنة وحب الكلمة الصادقة، وكان مثالًا في الصرامة المهنية والوفاء للقيم الصحافية.
كان دائمًا يقول: “الصحافة رسالة قبل أن تكون مهنة، والصدق مع القارئ والوطن هو أساس كل كلمة.”
في تلك الفترة، زار مقر جريدة «رسالة الأمة» الصحافي القطري المعروف عبد الله يوسف الحسيني، صديق الأستاذ البوسرغيني، واطلع على العمل الذي نقوم به. وبناءً على توصية البوسرغيني، تمت دعوتي للعمل بدولة قطر في مجلة العهد القطرية التي يملكها عبد الله يوسف الحسيني، وقد عملت بها لمدة سنتين، ما أضاف بعدًا دوليًا مهمًا لمساري الصحافي.
في رحاب الصحافة
بدأت وجهتي التعليمية الأولى في جريدة المحرر، ثم انتقلت إلى جريدة الميثاق الوطني، قبل أن ألتحق بـ «رسالة الأمة» في بداية الثمانينات، حيث عملت إلى جانب الأستاذ البوسرغيني، وتعلمت منه الكثير عن الالتزام بالمهنة وحب الكلمة الصادقة.
لاحقًا، وبعد تجربتي في قطر، واصلت عملي الصحافي في مؤسسة ماروك سوار بجريدة الصحراء المغربية، حيث عملت حتى إحالتي على التقاعد. اليوم، أشغل منصب سكرتير تحرير جريدة «كابريس»، محافظًا على حضور متميز ووعي إعلامي متجدد، ومشاركًا خبرتي مع الأجيال الجديدة.
مسار من بدايات الاستقلال
الفقيد من الرعيل الأول الذين انخرطوا في بناء الصحافة المغربية عقب الاستقلال. كانت بدايته في جريدة «التحرير» (1959)، التي شكّلت منبرًا للاتحاد الوطني للقوات الشعبية، حيث أبان عن قدرة تحريرية متميزة جعلت اسمه يرتبط منذ وقت مبكر بالكلمة الرصينة والالتزام الوطني. كما عمل في جريدة «العلم» التابعة لحزب الاستقلال، مساهماً بقلمه في إثراء النقاش السياسي والفكري.
الصحافة والنشر: مسيرة حافلة وإسهامات متواصلة
شكلت حياة الأستاذ عبد السلام البوسرغيني نموذجًا متكاملًا في الصحافة والنشر بالمغرب. انتقل إلى جريدة «الأنباء» الرسمية، حيث تولّى مسؤوليات تحريرية كبرى، من أبرزها رئاسة التحرير. كان له دور محوري في صياغة الخطاب الإعلامي الرسمي، بما يوازن بين التغطية الدقيقة للسياسة العامة وإيصال صوت الدولة للمواطنين.
كما واصل عطائه في جريدة «رسالة الأمة»، مسؤولا عن القسم الدولي، حيث اشتغلت معه سنوات عديدة، وكان مثالًا في الانضباط، الصرامة، والحرص على أن تبقى الكلمة صادقة وملتزمة. هناك ظل وفيًا لرسالة الصحافة حتى إحالته على التقاعد، دون أن يتخلى يومًا عن شغفه بالمهنة ولا عن نصح الأجيال الجديدة.
لقد ترك البوسرغيني إرثًا غنيًا في الصحافة والنشر، بصفته صحافيًا ملتزمًا ومربّيًا للأجيال الجديدة، وأثره ممتد في كل منابر الإعلام المغربي، سواء الرسمية أو الحزبية، أو عبر المجلات التي ساهم في إنجاحها وتطويرها.
تكريم واعتراف
عرف عن الراحل أنه كان موسوعي الثقافة، حاضرًا بعمق تحليله واتساع معرفته، وحظي بتقدير واسع من الجسم الصحفي، تُوّج سنة 2023 بـ «الجائزة الوطنية الكبرى للصحافة – الجائزة التقديرية»، عربون وفاء لمسيرة استثنائية.
شهادة شخصية في حق الراحل
لا أكتب هنا مقالاً عادياً، بل شهادة من القلب، بمرارة الفقد وألم الغياب، عن رجل عايشته عن قرب، وتقاسمت معه تفاصيل المهنة اليومية في جريدة «رسالة الأمة»، إلى جانب صديقنا العزيز عبد الله ستوكي.
لقد كان الأستاذ عبد السلام البوسرغيني أكثر من زميل مهنة؛ كان بمثابة الأخ الأكبر، والقدوة التي نتعلم منها أصول الصحافة كما نتعلم منها أخلاق الرجال. كان شديد الحرص على أن تبقى الكلمة مسؤولة، وصوت الصحفي مرفوعًا بالصدق لا غير.
كنت أرى فيه تلك الصرامة الهادئة، التي لا تعرف المساومة في القيم، ولا الانحناء إلا للحق. كان يذكرنا دائمًا بأن الصحافة رسالة قبل أن تكون مهنة، وأن الصدق هو رأس مالها.
اشتغلت إلى جانبه سنوات، ولم أذكر يومًا أنه تخلى عن واجبه أو تهاون في مسؤوليته. كان يحترم المواعيد، يحترم النصوص، ويحترم القارئ قبل كل شيء. ومعه تعلمت أن الصحافة ليست مجرد كتابة، بل هي انتماء، تضحية، وصوت ضمير.
