صوت طهران تحت النار: هل انتهت حصانة الإعلام الإيراني؟

kapress16 يونيو 2025آخر تحديث :
صوت طهران تحت النار: هل انتهت حصانة الإعلام الإيراني؟

بقلم: المصطفى العياش
إعلامي متمرس، بدأت تجربتي الإعلامية بجريدة المحرر، ثم جريدة الميثاق الوطني، ورسالة الأمة، التي مكنتني من بناء رؤية تحليلية واسعة، قبل أن أخوض سنتين في مجلة العهد القطرية بمدينة الدوحة، حيث تزامنت تجربتي مع حرب الخليج الأولى، وبعدها قضيت 28 سنة في جريدة الصحراء المغربية التي أعتبرها مدرسة إعلامية قائمة الذات، ساهمت بشكل كبير في صقل مهاراتي التحليلية وفهمي العميق للتقاطع بين السياسة والإعلام، إلى أن تخلّيت عنها تقاعداً.

في خضم عملي في مجلة العهد بمدينة الدوحة بدولة قطر، والتي تزامنت مع حرب الخليج الأولى، استوعبت أن الإعلام ليس مجرد نقل أحداث، بل هو قوة استراتيجية في الصراعات الحديثة، أداة تأطير الرأي، وصناعة توجهات الرأي العام عبر الحدود. ومن ذلك الوقت، تتعمق قناعتي بأن المعركة الحقيقية اليوم هي في ذهن المواطن.

الضربة الإسرائيلية الأخيرة على مقر هيئة الإذاعة والتلفزيون الإيراني في قلب طهران ليست فقط رد فعل عسكري، بل رسالة استراتيجية توضح كيف أن الحرب الحديثة لا تقتصر على المواجهات الميدانية، بل تمتد إلى ما يسمى بـ”حرب الوعي”، حيث يصبح الإعلام جزءاً لا يتجزأ من آلة القتال.

التلفزيون الإيراني الرسمي اليوم ليس مجرد ناقل للأخبار داخل حدود بلاده، بل منصة أيديولوجية ترسل إشاراتها وتأثيراتها إلى بلدان الغرب والشرق، متغلغلة في الحوارات السياسية والاجتماعية، ومحاولة فرض رؤيتها للعالم من خلال خطاب ديني وثوري قائم على ثقافة الممانعة والرفض لكل نماذج الحكم التوافقية والمؤسساتية.

من خلال تجربة تمتد لأكثر من أربعة عقود في ساحات الإعلام، أؤكد أن استهداف هذه المنصة الإعلامية له دلالات عميقة: هو استهداف لجبهة ناعمة تتحكم في بوصلة التحريض، وفي إعادة إنتاج أدوار سياسية في فضاءات متوترة. كما أنه مؤشر على أن إسرائيل تعتبر هذه الأذرع الإعلامية خطوط تماس، لا تقل أهمية عن خطوط النار.

في الحروب الحديثة التي تُصنف ضمن الجيل الرابع، لا تكفي السيطرة على الأرض، بل يجب التأثير على الذهنية، وهنا يبرز الإعلام كسلاح استراتيجي يستخدم لتفكيك الثقة، واستنزاف الحصانة الوطنية، وصناعة روايات مضادة. النظام الإيراني، الذي انتقل من عهد الشاه إلى الثورة الإسلامية، أراد أن يصنع نموذجاً جديداً يعتمد على السيطرة الإعلامية كجزء من منظومة الحكم والسيطرة.

هذه السيطرة الإعلامية التي عملت على تحييد أو توجيه مجتمعات واسعة، غدت هدفاً مشروعاً في منظومة المواجهة الإقليمية والدولية، لأن التحكم في سرديات الحرب والسلام هو عنصر أساسي في بناء التوازنات الاستراتيجية.

لا يمكن اعتبار هذا الاستهداف انتهاكاً لحرية الإعلام، بل هو رد فعل على استخدام الإعلام كأداة تحريض وتعبئة ذات أبعاد أمنية. فقد تحولت هيئة الإذاعة والتلفزيون الإيرانية إلى مؤسسة تشارك بشكل مباشر في الحرب النفسية، وتمارس ضغطاً مؤثراً في دوائر صنع القرار عبر خطابها الموجه.

من واقع خبرتي الطويلة في الإعلام، ومن خلال تعقبي لمسارات الإعلام السياسي في المنطقة عبر مختلف المحطات الصحفية والإعلامية التي عملت بها، أرى أن المعركة ضد الخطاب الإعلامي الإيراني ليست فقط معركة جيوسياسية، بل هي معركة وجودية لاستعادة العقل والقرار من بين يدَي خطاب ثوري يكرس الانقسام والتوتر.

في نهاية المطاف، ما جرى في مقر هيئة الإذاعة والتلفزيون الإيراني هو أكثر من مجرد حدث عسكري؛ إنه إنذار مبطن يوجه لكل القوى السياسية والإعلامية أن الإعلام لم يعد مجرد ناقل أخبار، بل هو ساحة حاسمة في صراعات النفوذ والهيمنة. ومن خلال تجربتي التي امتدت عبر أربع عقود في الصحافة والإعلام، أدرك أن استيعاب هذا الواقع وفهم آليات الحرب الإعلامية هو السبيل الوحيد للحفاظ على المصالح الوطنية والاستقرار الإقليمي.

إن أي تجاهل لقوة الإعلام كجزء من المعركة الاستراتيجية سيؤدي إلى نتائج كارثية لا تقتصر على الميدان وحده، بل تمتد لتشمل الذهنية العامة وخيارات الشعوب. لذلك، يبقى الوعي الإعلامي، والقدرة على قراءة الرسائل والرسائل المضادة، من الركائز الأساسية لأي سياسة دفاعية أو استراتيجية ناجحة في زمننا هذا.

من جريدة المحرر، مروراً بـالميثاق الوطني ورسالة الأمة، ثم مجلة العهد بمدينة الدوحة في قطر، إلى جريدة الصحراء المغربية التي كانت مدرسة إعلامية بحد ذاتها، أؤكد أن الإعلام هو أكثر من مجرد أخبار؛ هو رسالة توجه مسار الشعوب، وإذا كانت هذه الرسالة منضبطة وموضوعية، تكون أداة سلام واستقرار، وإذا كانت أداة حرب ورواية مضادة، فإنها تتحول إلى هدف لا بد من استهدافه في سياق مواجهة المصالح الاستراتيجية.

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

الاخبار العاجلة