منذ الانتخابات التشريعية المبكرة في يونيو 2024، دخلت فرنسا في واحدة من أعقد مراحلها السياسية الحديثة. فقد أفرزت صناديق الاقتراع برلمانًا مشتّتًا بلا أغلبية واضحة، الأمر الذي فتح الباب أمام سلسلة من الأزمات الحكومية غير المسبوقة. البرلمان المنتخب في 2024 سيبقى رسميًا حتى يونيو 2029، لكن التجارب الحكومية القصيرة والمتتابعة، وضغط البرلمانيين الفرنسيين، أظهرت صعوبة إدارة البلاد في ظل توازنات القوى الجديدة داخل الجمعية الوطنية.
فمن استقالة إليزابيث بورن مباشرة بعد الانتخابات، إلى سقوط حكومتي غابرييل أتال وميشال بارنييه، وصولًا إلى الإطاحة بفرانسوا بايرو في شتنبر 2025 بحجب الثقة واسع، بدا وكأن المشهد السياسي الفرنسي يعيش على إيقاع أزمة مستمرة، تعكس عمق الانقسام الحزبي وغياب الاستقرار المؤسساتي.
واقع البرلمان الفرنسي وتحديات الحكومة
سقوط حكومة بايرو جاء بعد تسعة أشهر فقط من توليه رئاسة الوزراء، بعد أن صوت البرلمان الفرنسي بأغلبية 364 نائبًا لحجب الثقة مقابل 194 داعمًا للحكومة. هذا القرار يعكس هشاشة التحالفات الوسطية داخل البرلمان، وصعوبة تمرير السياسات الاقتصادية والاجتماعية في ظل برلمان مشتّت وصعود معارضة شعبوية ويسارية متعددة الأطياف.
تجربة بايرو، مثل سابقاته، لم تتمكن من الصمود أمام ضغط البرلمانيين والمجتمع المدني، مما يعكس أزمة بنيوية في النظام السياسي الفرنسي: غياب أغلبية مستقرة، وتصاعد التوترات الاجتماعية، وتحديات اقتصادية كبيرة، أبرزها ارتفاع الدين العام وانخفاض الثقة في المؤسسات.
الأزمة السياسية الحالية في فرنسا ليست مجرد انعكاس لفشل الحكومة أو ضعف القيادات، بل هي نتاج تركيب سياسي واجتماعي معقد يعكس هشاشة النظام أمام التوازنات الجديدة داخل البرلمان.
غياب الأغلبية البرلمانية الصلبة يجعل أي حكومة تواجه صعوبة بالغة في تمرير السياسات والتشريعات.
صعود المعارضة متعددة الأطياف يشكل ضغطًا مزدوجًا على السلطة التنفيذية، ويزيد من هشاشة أي تجربة سياسية.
الهشاشة المؤسسية والتحولات الاجتماعية تظهر محدودية المؤسسات في ضبط الصراعات الداخلية، خصوصًا في الملفات الاقتصادية والاجتماعية الحرجة.
خيارات المرحلة المقبلة أمام الرئيس والمؤسسات السياسية محدودة وحساسة: تعديل وزاري شامل أو انتخابات تشريعية مبكرة، وكل خيار يحمل تحديات كبيرة على استقرار البلاد.

اليسار يطالب باستقالة الرئيس ماكرون
مباشرة بعد إطاحة حكومة فرانسوا بايرو بحجب الثقة اليوم الإثنين 8 سبتمبر 2025، تصاعدت مطالب البرلمانيين اليساريين باستقالة الرئيس إيمانويل ماكرون، معتبرين أن المرحلة تتطلب خطوات حاسمة لإعادة التوازن السياسي واستقرار الحكم. هؤلاء البرلمانيون يرون أن استمرار الرئيس في منصبه دون إجراءات واضحة قد يزيد من توتر العلاقة بين البرلمان والمجلس التنفيذي، ويعقد قدرة الحكومة على تمرير السياسات الاقتصادية والاجتماعية الحرجة في ظل برلمان مشتّت وتحالفات غير مستقرة.
هذا المطلب يعكس صعوبة المشهد السياسي الفرنسي، حيث لم تعد الأزمات الحكومية مرتبطة فقط بضعف القيادة أو فشل السياسات، بل أصبحت محصلة لتوازنات القوى داخل البرلمان والصراع المستمر بين مختلف الأطياف السياسية. كما يظهر بوضوح الضغط المتزايد على الرئيس لاتخاذ قرارات حاسمة لضمان استقرار مؤسسات الدولة واستعادة ثقة المواطنين في العملية السياسية.

السياق الاقتصادي والاجتماعي
تواجه فرنسا تحديات اقتصادية كبرى، أبرزها:
ارتفاع الدين العام بشكل ملحوظ خلال السنوات الأخيرة.
تضخم متزايد يؤثر على القدرة الشرائية للمواطنين.
احتجاجات اجتماعية متفرقة ضد سياسات الإصلاح الاقتصادي والضرائب.
كل هذه العوامل تزيد الضغط على الحكومة وتجعل أي تجربة سياسية قصيرة الأمد معرضة للفشل، خصوصًا في ظل البرلمان المشتّت وتحالفات غير مستقرة.
السيناريوهات المستقبلية وفرص الاستقرار
باختصار، المرحلة المقبلة تتطلب من الرئيس والمؤسسات اتخاذ قرارات حاسمة ومرنة لضمان استقرار الحكم، استعادة الثقة في البرلمان، ومواجهة التحديات الاقتصادية والاجتماعية. إما تعديل وزاري شامل لإعادة التوازن داخل البرلمان، أو انتخابات تشريعية مبكرة لإعادة رسم المشهد السياسي قبل اكتمال مدة البرلمان الحالية (يونيو 2029).

إعداد: المصطفى العياش __ سكرتير تحرير جريدة كابريس