المصطفى العياش — خالد بدري/كابريس
وسط موجة من التفاعل الإعلامي الذي لم تُعرف له ملامح واضحة، يجد المتابع نفسه أمام سؤال بسيط لكنه عميق: هل يمكن أن تُمحى مسيرة فنية امتدت لعقود، بسبب ما لم يثبت، وما لا يمتّ بصلة للفن؟
لطيفة رأفت، التي شكلت لأزيد من ثلاثين سنة إحدى ركائز الغناء المغربي الأصيل، تجد نفسها اليوم في مرمى سهام لا تتعلق بصوتها، ولا بإبداعها، ولا بتفانيها في خدمة الأغنية المغربية، بل بشيء آخر لا صلة له بالمقام.
في زمن تراجع فيه الصمت الجميل أمام ضجيج المنصات، وفي ظل تسابق بعض الأصوات نحو التعميم والإدانة، يغدو من الواجب أن نعيد الأمور إلى نصابها: أن نفصل بين الفنان والإنسان، بين الظرف والجوهر، وأن نستحضر حجم ما راكمته هذه الفنانة من عطاء، وما شكّلته من وجدان، قبل أن نحكم أو نغفل أو ننسى.
منذ أن صدحت بأغنيتها الشهيرة “خيي”، ثم “أنا في عارك يا يما”، مروراً بـ”مغيارة”، “الحمد لله”، و”أنا فعارك يا يما”، لم يكن صوت لطيفة رأفت مجرد أداء جميل، بل كان امتداداً لروح وطنية، تشبه زهر البوادي وهو ينمو بصبر في تربة قاسية.
كانت لطيفة، ولا تزال، تملك خامة صوت لا تُشبه غيرها، صوتٌ يألفه المغاربة في مناسباتهم، في أفراحهم، في وجدانهم الجمعي. صوتٌ لا يمرّ، بل يُقيم.
ولأنها لم تكن يوماً عابرة في المشهد، فقد باتت جزءاً من الذاكرة الغنائية لهذا البلد، بل إن ما تملكه من موهبة، ومن حضور، ومن محبة لدى الجمهور، هو ملك للوطن أكثر مما هو ملك لها.
قد تكون لطيفة رأفت قد دخلت منعطفات شخصية صعبة، ولعل زواجها الأخير لم يكن بعيدا عن مسببات هذا المنعطف، لكن ما لا يمكن تجاهله هو أنها اختارت أن تبقى داخل أرضها، قريبة من جمهورها، ثابتة في حبها للفن رغم تقلبات الحياة. لم تقايض صوتها بالصمت، ولا صورتها بالغياب.
إن محاولة حصر فنانة بهذا الحجم في زوبعة لحظية، هو اختزال لا يخدم الذاكرة الفنية، ولا يخدم الإنصاف، ولا يليق ببلد يعرف قيمة رموزه.
وإذا كان الجدل اليوم يُلاحقها، فإن ما أنجزته قبل الجدل وبعده، هو ما سيبقى. فالفن النظيف لا يحتاج إلى دفاعات، بل إلى تذكير فقط.
لطيفة، وهي التي لم تُعلن يوماً اعتزالها، ولم تنسحب من ساحة الغناء رغم الإكراهات، تواجه اليوم لحظة صعبة بصمت الفنان الذي اعتاد أن يتكلم فقط حين يغني.
ولعل في هذا الصمت درسا، بأن الكبار لا يردون على الضجيج، بل يتركون الزمن يُفرز الغث من السمين، ويُعيد التقدير إلى مكانه.
لسنا هنا بصدد إصدار الأحكام، ولا محوها، ولكن فقط لاستحضار قيمة فنية نادرة، ومكانة إنسانية لا يجوز تبخيسها.
وإذا كان الوطن أرضا، فإن لطيفة رأفت كانت لفترة طويلة جزءاً من صوته، من روحه، من ملامحه.
هي لا تطلب أكثر من أن يُنظر إلى عطائها بميزان الإنصاف، وأن يتم تجاوز ما هو عابر بما يليق بما هو راسخ.
وهو ما نتمناه من جمهور أحبها كما هي، ومن إعلام يَعي أن للفن حرمة، وللماضي الجميل مكانة، وللرموز الفنية كرامة لا تُختزل في لحظة.
ولأن الفن مرآة الوطن، فإن ما تتعرض له فنانة بحجم لطيفة رأفت لا ينبغي أن يُؤخذ في عزلة عن محيطه، فهناك من يتربص بكل لحظة ارتباك أو انفعال في ساحتنا الثقافية ليُضخمها، ويحولها إلى ورقة ضغط سوداء يُراد بها تبخيس كل جميل في هذا البلد. فالحذر كل الحذر من أن نُهدي خصوم الفن والوطن فرصة أخرى للنيل من رموزنا، من خلال جلد أنفسنا بأيدينا.
