في مشهد يختزل أعطاب العمل الجماعي المحلي، اضطر مجلس مقاطعة سيدي بليوط إلى رفع الدورة العادية لشهر يونيو 2025، بسبب غياب النصاب القانوني للمرة الثانية على التوالي. غياب مستشاري الأغلبية والمعارضة معًا دفع إلى الإعلان عن تاريخ جديد لانعقاد الدورة، حُدِّد في الثاني من يوليوز المقبل، “بمن حضر” ووفق جدول الأعمال نفسه.
لكن خلف هذا الإعلان البارد، تشتعل تساؤلات سياسية وقانونية عميقة، حول جدوى المجالس إن كانت تفشل في مجرد عقد اجتماع، وحول تأويل النص القانوني الذي يتيح للمجالس أن تشتغل “كيفما اتفق” بعد فشلين متتاليين. كما يطفو على السطح سؤال أكثر إحراجاً: أين وزارة الداخلية مما يحدث؟
عطب جماعي أم تكتيك جماعي؟
المعطيات التي تسربت من داخل محيط المجلس، تشير إلى أن الغياب الجماعي للمستشارين لم يكن حدثاً عارضاً، بل تحركاً سياسياً منسقاً يحمل رسائل متعددة. مصادر متطابقة أكدت أن الخلفية الأساسية لهذا التغيب تعود إلى حالة من الاحتقان الداخلي بسبب طريقة تدبير المجلس، خاصة من طرف الرئيسة كنزة الشرايبي.
مستشارون محسوبون على الأغلبية قبل المعارضة، اتهموا رئيستهم بانتهاج أسلوب “انفرادي” في التسيير، مع تغييبهم عن القرارات الأساسية، وحرمانهم من التفويضات التي يفترض أن تُوزع بشكل يضمن التوازن التمثيلي داخل المجلس. هذا التوتر تحول إلى مقاطعة جماعية متكررة، ليس فقط خلال دورة يونيو الحالية، بل منذ ما يقارب سنتين، ما يدل على أن الخلاف بنيوي وليس ظرفياً.
جواد رسام… صوت نقدي في مجلس مقاطعة سيدي بليوط
في وسط هذه الأجواء المشحونة، يبرز نائب الرئيسة جواد رسام كشخصية تركز على دور المراقبة والمساءلة، حيث يسلط الضوء على ضرورة احترام القانون والتنظيم داخل المجلس. من خلال مواقفه المتكررة، يُظهر رسام اهتماماً بالشفافية وتحسين آليات العمل، مع الابتعاد عن الانخراط في المناورات السياسية أو التصريحات التي تشير إلى طموحات قيادية معلنة.
يبقى دوره محصورًا في طرح الأسئلة البناءة والمطالبة بإصلاحات لضمان توازن أفضل في تدبير شؤون المقاطعة، بعيدًا عن التوترات التي تعصف بمجلس ترأسه الرئيسة كنزة الشرايبي.
توافق شبه إجماعي على تغيير القيادة
وتشير مصادر خاصة إلى وجود توافق شبه إجماعي بين مكونات المجلس، من الأغلبية والمعارضة على حد سواء، حول ضرورة تغيير الرئيسة كنزة الشرايبي.
هذا التوافق ينبع من تذمر مشترك من أسلوب التسيير الانفرادي والقرارات التي تتخذ دون استشارة شاملة، إضافة إلى الشبهات التي تحوم حول بعض الصفقات المالية، كالتي تخص صيانة الأرصفة ونفقات سيارات الخدمة.
“الحل الوحيد هو انتخابات جديدة لاختيار رئيس جديد لهذه المقاطعة”، هكذا صرح سعيد السبيطي، مستشار المعارضة، معبرًا عن موقف واسع بين مختلف الأعضاء.
كما طالب مستشارون آخرون، بينهم من الأغلبية، بضرورة تصحيح الوضع عبر إعادة التوازن للمكتب المسير، والانكباب على حل الأزمة التي باتت تعطل عمل المجلس.
سياسة “بمن حضر” تحت المجهر
اللجوء إلى جلسة ثالثة تُعقد “بمن حضر”، وإن كان متوافقاً مع المادة 42 من القانون التنظيمي رقم 113.14، يطرح إشكالاً أخلاقياً قبل أن يكون قانونياً. ففي مجلس يتجاوز عدد أعضائه الثلاثين، تصبح مصادقة أقلية ضئيلة على مشاريع حساسة مسألة تفقد المشروع الجماعي توازنه التمثيلي.
“هل أفرغت المناورة السياسية هذا المقتضى القانوني من مضمونه الديمقراطي؟ وهل أصبح ‘بمن حضر’ مجرد سلاح لتجاوز المعارضة أو الأصوات المزعجة داخل الأغلبية نفسها؟”
الرد الرئاسي… والتهديد بالعزل
رئيسة المجلس لم تتأخر في الرد. فبعد تكرار الغيابات، هددت صراحةً بتفعيل المادة 67 من القانون التنظيمي، التي تنص على إمكانية عزل المستشارين المتغيبين ثلاث دورات متتالية أو خمس منقطعة، بدون عذر مقبول.
لكن هذه الورقة، وإن بدت قانونية، تطرح تساؤلاً آخر: هل تُستعمل فعلاً في إطار احترام المصلحة العامة، أم كوسيلة لردع المخالفين وضمان السيطرة داخل المجلس؟
في ظل هذا التوتر، تدخلت قيادات حزبية مركزية من أحزاب الأصالة والمعاصرة، الاستقلال، والتجمع الوطني للأحرار، لمحاولة تهدئة الأجواء، ودعوة الرئيسة إلى إشراك باقي المكونات في اتخاذ القرار، وتوزيع المسؤوليات داخل المكتب بطريقة عادلة، تحفظ للمجلس توازنه.

أكثر من مجرد غياب… أزمة ثقة وتحدي للمسؤولية
الذين اختاروا المقاطعة، لم يعترضوا فقط على طريقة التسيير، بل تحدثوا صراحة عن اختلالات في تدبير بعض الصفقات، من قبيل صيانة الأرصفة ونفقات سيارات الخدمة، وهي ملفات ظلّت مثار جدل داخل المجلس. ورغم أن الرئيسة لم تُواجه بأي متابعة رسمية إلى حدود الساعة، إلا أن الضغوط السياسية والاتهامات المتكررة جعلت من الصعب تمرير أي قرار دون تكلفة.
هنا يُطرح سؤال مشروع: مادامت هذه الأعطاب تتكرر منذ أزيد من سنتين، فهل يظل الأمر محصورًا في مجلس يعجز عن تدبير ذاته؟ أم أن للوزارة الوصية، باعتبارها سلطة رقابة إدارية، ما يكفي من الصلاحيات للتحرّك؟
الوزارة الوصية… بين الاختصاص والمسؤولية
هنا تبرز مسؤولية الوزارة الوصية، أي وزارة الداخلية. فالقانون التنظيمي 113.14 يمنحها صلاحيات واسعة تتجاوز مجرد الرقابة الشكلية:
عبر المادة 64، يمكن لعامل العمالة أو والي الجهة توجيه إنذار رسمي للرئيسة في حال الإخلال بالقانون أو سوء التدبير.
وفي حال عدم الامتثال، يُرفع تقرير إلى وزير الداخلية، الذي يملك قانوناً حق توقيف الرئيسة مؤقتاً بقرار معلل، وإحالة الملف إلى المحكمة الإدارية للفصل في العزل.
كما يمكن للمفتشية العامة للإدارة الترابية، بتكليف من الوزارة، إجراء افتحاص شامل للصفقات والمالية، وهو ما حدث في حالات مشابهة بعدة مدن.
“رغم أن هذه الآليات القانونية تتيح للسلطات المركزية التحرك في الوقت المناسب، إلا أن صمتها تجاه ما يقع بمقاطعة سيدي بليوط، بات يُقابل داخلياً بمواقف متصاعدة من مستشارين اختاروا كشف ما يعتبرونه أعطاباً بنيوية لم تعد تحتمل الانتظار.”
مستشارون يطالبون بالتغيير: العزل قبل الانهيار
في هذا السياق، ارتفعت أصوات من داخل المجلس تدق ناقوس الخطر وتطالب بتدخل الوزارة الوصية لوقف حالة “الشلل” التي تعيشها مقاطعة سيدي بليوط.
وقد نقلت عدة منابر إعلامية تصريحات لبعض المستشارين الذين حمّلوا الرئيسة مسؤولية ما وصفوه بـ”الانفراد في التسيير” و”تهميش باقي الأعضاء”، مطالبين بإعادة النظر في قيادة المجلس.
فقد صرّح المستشار سعيد السبيطي، في تصريح خصّ به موقع الأنباء 24، أن “الحل الوحيد هو انتخابات جديدة لاختيار رئيس جديد لهذه المقاطعة”، مؤكدًا أن المجلس يعيش حالة إقصاء منهجي من طرف الرئيسة، وعدم احترام مبدأ التشاركية.
من جهته، قال يوسف بوخشبة، وفق ما أوردته جريدة العمق المغربي، إن “التحالف الهش داخل المجلس لم يعد قابلاً للاستمرار”، مشيرًا إلى أن هناك رغبة جماعية في التوجه نحو مسطرة العزل.
أما رئيس لجنة الشؤون المالية والاقتصادية، عمر نارس، فقد أشار في تصريح نُشر على موقع هسبريس، إلى ما اعتبره “تعديلاً غير قانوني في إحدى الصفقات المتعلقة بصيانة الأرصفة”، مضيفاً أن “الأمر تم دون تصويت، وهو ما يرقى إلى التزوير الإداري.”
وتبقى هذه التصريحات، رغم اختلاف مصادرها، مؤشراً على وضع داخلي مأزوم، وعلى ضغط سياسي مستمر يطالب بتصحيح المسار أو إعادة هيكلة المكتب المسير.
من يجرؤ على التصحيح؟
السلطة الإدارية تتوفر إذن على الآليات القانونية، لكن السؤال هو: هل يتم تفعيلها حين تخرج الأمور عن السيطرة، أم يُترك المجلس في حالة “غيبوبة مؤسسية”؟
في مجلس مقاطعة سيدي بليوط، حيث أصبح الغياب سلوكًا متكرّرًا، والاتهامات تُتداول في العلن، والتسيير أصبح موضوع سجال حزبي ومحلِّي، لا يبدو أن “السكوت الإداري” يُطمئن، بقدر ما يطرح علامات استفهام إضافية.
ضرورة التدخل العملي لإنقاذ المجلس
بعد سنتين من الأزمة المتواصلة داخل مجلس مقاطعة سيدي بليوط، لم يعد أمام الجميع سوى اتخاذ خطوات عملية وسريعة لإنهاء حالة البلوكاج المستمرة. وزارة الداخلية، التي تملك الصلاحيات القانونية والإدارية، مطالبة بتفعيل هذه الصلاحيات دون تأخير، لضمان استمرارية العمل الجماعي واحترام القوانين.
المجلس بحاجة إلى قيادة جديدة قادرة على استعادة الثقة وتحقيق الانسجام، وفي غياب ذلك، ستبقى المؤسسات المنتخبة عاجزة عن أداء مهامها، وسيظل المواطن هو المتضرر الأول.
