مواطن مغربي… عاش اللحظة، وصمت 28 سنة، ثم تكلّم

kapress23 يوليو 2025آخر تحديث :
مواطن مغربي… عاش اللحظة، وصمت 28 سنة، ثم تكلّم

بعض اللحظات لا تُشبه غيرها، وبعض الأصوات تبقى خالدة في الذاكرة، لأنها لا تأتي من الخارج، بل من عمق الروح.

وفي هذا المقام، حيث يلتقي الحنين بالوفاء، ويتقاطع البوح مع التاريخ، يتزامن حديثي هذا مع الذكرى الأليمة لرحيل أب الأمة، جلالة الملك الحسن الثاني، طيّب الله ثراه، يوم 23 يوليوز، وهي ذكرى تعود إلينا هذا العام 2025، لتوقظ فينا مشاعر لا تهدأ، وارتباطًا لا ينفصم.

هذه ليست قصة من نسج الخيال، بل اعتراف حيّ خرج من صمت دام 28 سنة، في لحظة تداخل فيها الإحساس بالزمن، والانتماء، والوفاء لملك عظيم.

في لحظة لم يكن فيها شيء يوحي بما سيحدث، سُمع الصوت… ولم يكن صوتًا عاديًا.

صوت من عالم آخر.. حكاية 28 سنة من الصمت والوفاء للمغفور له جلالة الملك الحسن الثاني، طيّب الله ثراه، ولجلالة الملك محمد السادس، نصره الله

بعون الله وقوته التي تخلق وتميت، وتحيي،
أبدأ هذا البوح الصادق، الذي انتظرته نفسي، وانتظرته الأيام، وانتظرته السنين. 28 سنة من الصمت، والحيرة، والدهشة.

ليس سهلاً أن تمر بتجربة ليست ككل التجارب، أن تسمع صوتًا ليس من بشر، وأن تحمل في قلبك سرًّا لا يفهمه إلا من ذاق مرارة الفراق وعمق الارتباط.

كنت خارج مسجد محمد الخامس بحي سيدي عثمان بالدار البيضاء، بعد صلاة الجمعة، أتهيأ لارتداء حذائي وسط جموع المصلين الخارجين، عندما همس في أذني صوت خافت، ليس من جنس البشر، يقول لي:
“اصبر… فجلالة الملك قد ودّع الحياة.”

توقفت عن الحركة، تجمد الزمن من حولي، لم يكن أحد يتحدث، ولا أحد التفت إلي، لكني سمعته بوضوح، ولم يكن من رجل، بل من عالم آخر.

ثم جاءني الخبر المؤلم من رجل أعرفه، رحمه الله، حاملاً الحقيقة القاطعة التي لم يكن هناك مجال للشك في صحتها. كانت كلمات الخبر كالصاعقة، لكنها في الوقت نفسه أكدت لي صدق الصوت الذي سمعته، وأزالت أي شكوك كانت تدور في ذهني. لم يكن مجرد خبر عادي، بل كان لحظة فاصلة في حياتي، لحظة أغلقت فيها صفحة من الزمن وفتحت أخرى على عهد جديد.

تجربة تتجاوز حدود الإدراك

الصوت الذي وصلني لم يكن من عالم البشر، بل من فضاء أعمق، حيث تتلاقى الروح بالحدث قبل أن يعلن عنه الواقع. لم تكن كلمات تُقال فقط، بل رسالة تفتح الأفق أمام النفس، تزرع صبرًا ويقينًا عميقين، من عالم لا تُقاس مفاهيمه بمقاييس الأرض.

هذا الصوت، بلا هيئة ولا صورة، ترك في روحي أثرًا خالدًا، وصنع من الصمت عهدًا، ومن الوفاء مسؤولية تُحيا بالوجدان لا تُكتب بالحروف.

الارتباط الوجداني بجلالة الملك الحسن الثاني، طيّب الله ثراه، ليس مجرد ذكرى عابرة، بل هو وفاء وولاء لملك عظيم حمل عبء قيادة أمة بحكمة وثبات، وأشعل فينا روح الانتماء والكرامة.

قبل شهور قليلة من رحيله، كنت داخل مسجد الحسن الثاني العظيم في مناسبة دينية مهيبة، حيث مرّ جلالة الملك، طيّب الله ثراه، رفقة ولي عهده آنذاك، جلالة الملك محمد السادس، نصره الله وأيده.

كانت مشاعري مختلطة بين المحبة والاحترام العميقين.
صرخت من أعماقي: “الله يبارك في عمر سيدي!”، ولم يكن ذلك مجرد هتاف، بل انطلاق صادق من قلب يؤمن بعظمة ملك حمل رسالة وطنية سامية.

نظر إليّ جلالته بثبات الحكمة والنبل، وكأنه يقرّ حضور القلب قبل الحضور الجسدي.

أما جلالة الملك محمد السادس، فكانت نظراته تحمل احترامًا وتقديرًا لتلك اللحظة التي تشهد انتقال الروح والنهج.

حينما نتحدث عن لحظة إعلان وفاة جلالة الملك الحسن الثاني، طيّب الله ثراه، والتي كانت من أقسى لحظات التاريخ الوطني، تبرز في ذاكرتي تفاصيل لا تُنسى.

في مساء يوم الجمعة 23 يوليو 1999، حين نطق الناطق الرسمي باسم القصر الملكي بالجملة التي لا تُمحى من الذاكرة:
“تمّ قبل قليل الإعلان عن وفاة جلالة الملك الحسن الثاني.”

توقف كل شيء، وتجمد الزمن، وعمّ الحزن القلوب والوجوه. لم يكن خبرًا عاديًا، بل كان مأساة أمة بأكملها. في تلك اللحظة، شعرت أن الوطن كله قد دخل في حداد حقيقي، صمت ثقيل يغطي المكان والزمان.

كانت لحظة فارقة في تاريخ المغرب الحديث، لحظة وداع ملك عظيم، كانت روحه حاضرة في تفاصيل الدولة، في نفوس المواطنين، وفي كل زاوية من زوايا الوطن.

حين يتحول الحزن إلى التزام…

لم يكن الحزن على رحيل الملك الحسن الثاني مجرد لحظة بكاء أو استسلام لعاطفة جياشة، بل تحوّل ــ عند من خبروا معنى الوطنية الصادقة ــ إلى التزام وجداني متجدد. التزامٌ بالثوابت، وبالخيارات الكبرى للأمة، وبالاستمرار في حمل المشعل دون تردد أو انكسار.

ولأنّ الرعيل الذي عاش المرحلة كان يزن الكلمة بميزان الحكمة، فقد ظلَّ يتذكر وصاياه، لا كعبارات تُردَّد في المناسبات، بل كعهد يجب أن يُصان. وكان من هؤلاء الوالد، رحمه الله، المقاوم الحاج عياش إبراهيم، صديق ورفيق المرحوم عبد الرحمان اليوسفي في الكفاح، عندما كان مسؤولًا عن طباعة جريدة التحرير.
وهو الأب الذي لم أره يومًا ينهار أمام المحن، لكنه انكسر في تلك اللحظة. بكى لأنه أحس أن جزءًا من ذاكرته الوطنية قد انطفأ.

المقصود من هذا البوح

هذا البوح ليس مجرد سرد لتجربة شخصية أو قصة عابرة مرت في حياة الإنسان، بل هو تعبير صادق ينبثق من أعماق النفس عن الوفاء الحقيقي والارتباط العميق بتاريخ الوطن ومؤسساته، وعن احترام لا يزول لقيم التضحية والقيادة التي جسدها جلالة الملك الحسن الثاني، طيّب الله ثراه، ورعاها جلالة الملك محمد السادس، نصره الله.

هو دعوة مفتوحة لكل مواطن ليعود إلى نفسه، ويتأمل في الروح الحقيقية للوفاء، ذلك الوفاء الذي لا يرتبط فقط بالمناسبات الرسمية أو الكلمات الجوفاء، بل بالعمل المستمر، والالتزام اليومي، وحماية الثوابت التي شكلت هوية الأمة.

هذا البوح يحمل في طياته رسالة أعمق، رسالة تتجاوز حدود الكلمات لتصل إلى وجدان القارئ، وتذكره بأن تاريخ الوطن ليس مجرد صفحات يُقرأ عنها، بل دماء وأرواح وعهود تُحفظ في الصدور.

إنه تأكيد على أن الوفاء ليس حبرًا يُكتب على الورق، بل نبض حياة يستمر في الأجيال، وهو الركيزة التي تبنى عليها أي أمة صادقة في ولائها لوطنها وقيادتها.

في زمن تتسارع فيه الأحداث وتتبدل فيه المواقف، يصبح هذا البوح صوتًا هادئًا يدعو إلى التأمل والتجديد، إلى الصبر والثبات، وإلى استعادة روح الانتماء الأصيلة التي تجعل من الوطن بيتًا واحدًا وأمة واحدة، لا تفرقها أهواء ولا تغيرها رياح.

في زمن تتقلب فيه القناعات وتتبدل فيه الوجوه، يبقى الوفاء للذاكرة ولقيم الوطن حجر الأساس الذي لا يجوز أن يتزعزع.

وها نحن اليوم، في الذكرى السادسة والعشرين لرحيله الخالد، نستحضر العهد، ونجدد الالتزام، ونرفع الصوت عاليًا بأننا، رغم كل شيء، باقون على العهد، حاملون الرسالة، ثابتون في الصف، أوفياء للملك، وذخر للوطن.

نسأل الله تعالى أن يتغمد فقيد الأمة، جلالة الملك الحسن الثاني، طيّب الله ثراه، بواسع رحمته ومغفرته، وأن يسكنه فسيح جنانه، وأن يرزقنا جميعًا الصبر والسلوان.

وندعو الله أن يحفظ جلالة الملك محمد السادس، نصره الله، وولي عهده الأمير مولاي الحسن، والأمير الجليل مولاي رشيد، وجميع أفراد الأسرة العلوية الشريفة، وأن ينعم على المملكة المغربية بالأمن والأمان، وعلى شعبها العزيز بالرخاء والاستقرار.

اللهم آمين.

✍️ بقلم: المصطفى العياش
مواطن ملكي… عاش اللحظة، وصمت 28 سنة، ثم تكلّم
اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

الاخبار العاجلة