منير نافيع/كابريس
حين يكتب التاريخ فصوله الحديثة عن نهضة المغرب، لن يجد أقوى من عهد صاحب الجلالة الملك محمد السادس، نصره الله، ليصف به مرحلة التحول العميق والانبعاث الوطني الشامل. هو ملك الإنجاز، ورائد الرؤية المتبصرة، وباني دولة حديثة تمزج بين الأصالة والابتكار، وبين التمسك بالثوابت والانفتاح على العالم. فمنذ اعتلائه العرش سنة 1999، أطلق جلالة الملك ثورة تنموية صامتة، شاملة، متكاملة، حولت المغرب من بلد يبحث عن موطئ قدم، إلى قوة إقليمية لها كلمتها ومكانتها، خصوصا في الأقاليم الجنوبية، التي غدت في عهده قبلة للاستثمار، وجوهرة التوازن التنموي الوطني.
منذ اللحظة الأولى، وضع جلالة الملك محمد السادس قضية الصحراء في قلب أولوياته السيادية، مؤكدا أن لا تفاوض على مغربية الأرض، بل على إيجاد حل سياسي للنزاع المفتعل. هذه الصرامة الوطنية أثمرت دعما دوليا غير مسبوق، حيث تم افتتاح أكثر من 30 قنصلية عامة في مدينتي العيون والداخلة خلال أربع سنوات فقط، في تأكيد صريح من دول إفريقية وعربية وأمريكية على الاعتراف العملي بسيادة المغرب على أقاليمه الجنوبية. كما شكّل الاعتراف الأمريكي بمغربية الصحراء سنة 2020 نقطة تحول استراتيجية، قلبت موازين الملف إقليميا ودوليا، ودعمته أكثر من 80 دولة أعلنت صراحة دعمها لمبادرة الحكم الذاتي التي تقدم بها المغرب كحل سياسي جاد وواقعي وذي مصداقية.
وعلى أرض الواقع، لم يتوقف العاهل المغربي عند الدفاع عن القضية ترابيا، بل جعل من الصحراء رافعة تنموية واقتصادية بامتياز. ففي سنة 2015، أعطى جلالته انطلاقة النموذج التنموي الخاص بالأقاليم الجنوبية، برؤية استراتيجية عميقة، وميزانية ضخمة تجاوزت 77 مليار درهم، لتحويل الصحراء إلى قطب اقتصادي قاري. وشمل هذا النموذج مشاريع ضخمة أبرزها مشروع ميناء الداخلة الأطلسي، الذي سيتحول إلى واحد من أكبر الموانئ بإفريقيا، والطريق السريع تزنيت–الداخلة الذي يتجاوز طوله 1000 كيلومتر، إلى جانب إحداث مناطق صناعية ضخمة، ومراكز جامعية ومستشفيات مرجعية بمعايير دولية. ولم تغب الطاقات المتجددة عن هذا التصور الملكي المتكامل، حيث تشهد الداخلة مشاريع رائدة في مجال الهيدروجين الأخضر، بشراكات دولية مع رواد عالميين في الطاقة النظيفة.
لقد أصبحت الأقاليم الجنوبية اليوم وجهة مفضلة للمستثمرين الدوليين، بفضل الاستقرار، والبنية التحتية، والتحفيزات، حيث استقطبت الداخلة وحدها مشاريع كبرى في مجالات الصيد البحري، الصناعة الغذائية، الطاقة، والسياحة البيئية. ومن أبرز شركاء المغرب في هذه الطفرة: الولايات المتحدة، الصين، ألمانيا، الإمارات، اليابان، وفرنسا، وجميعها راهنت على المملكة كنموذج استقرار وفعالية في القارة الإفريقية.
وموازاة مع ذلك، شهد المغرب برمّته نهضة بنيوية عميقة، شملت جميع القطاعات، ضمن سياسة الأوراش الكبرى التي أطلقها جلالة الملك بعزم لا يلين. فقد تضاعفت شبكة الطرق السيارة لتتجاوز 2100 كلم، وتم إنشاء ميناء طنجة المتوسط، الذي يحتل المرتبة الأولى إفريقيًا ومتوسطيا، بطاقة تفوق 7.5 مليون حاوية سنويا، كما تم تدشين القطار فائق السرعة “البراق”، الأول من نوعه في إفريقيا، إلى جانب مشاريع كبرى للربط الكهربائي والمائي بين الجهات، ومركبات صناعية عملاقة مثل مصنع رونو في طنجة، وستيلانتيس في القنيطرة، والمصانع الجديدة للسيارات الكهربائية.
وفي المجال الرياضي، سطر المغرب بقيادة جلالة الملك إنجازات غير مسبوقة، من أبرزها تأهل المنتخب الوطني إلى نصف نهائي كأس العالم قطر 2022، كأول منتخب إفريقي وعربي يحقق هذا الإنجاز التاريخي، وهو ما لقي متابعة مباشرة من جلالة الملك الذي عبّر عن فخره الكبير بهذا الحدث. وفي سياق هذه الريادة، يرتقب أن يحتضن المغرب، إلى جانب إسبانيا والبرتغال، نهائيات كأس العالم 2030، بفضل الثقة التي باتت تحظى بها المملكة لدى الاتحاد الدولي لكرة القدم، ما يعكس مدى تطور البنية التحتية الرياضية والقدرة التنظيمية للمغرب.
أما على مستوى السياحة، فقد استطاع المغرب بفضل سياسة جلالة الملك أن يتجاوز 14 مليون سائح سنويا، بفضل مزيج من الأمن، البنيات الفندقية، الترويج الدولي، والانفتاح على أسواق جديدة، خاصة بعد فتح خطوط جوية مباشرة بين الداخلة ومدن أوروبية. وقد أصبحت الأقاليم الجنوبية، بفضل استثمارات الملك، قطبا للسياحة البيئية والرياضية، بما في ذلك ركوب الأمواج، السفاري، والسياحة الثقافية الصحراوية.
هكذا، يتجلى أن جلالة الملك محمد السادس لا يقود فقط مسيرة ملكية واثقة، بل يحدث تحولا عميقا في بنية الدولة المغربية، وفي موقعها داخل المنظومة الإقليمية والدولية. ملك أعاد بناء المغرب بسواعد شعبه، وعقله الاستراتيجي، ورؤيته البعيدة المدى. وقد صار المغرب اليوم، تحت قيادته، قوة صاعدة بثقة وثبات، تربط الشمال بالجنوب، والتاريخ بالمستقبل، والطموح بالإنجاز.
