يخوض حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، أحد أعرق الأحزاب السياسية بالمغرب، مرحلة حرجة من تاريخٍ طويل حافل بالنضالات والانجازات، لكنه اليوم يواجه تحديات تنظيمية وفكرية عميقة تهدد موقعه ودوره داخل المشهد الوطني. في هذا السياق، تعود تصريحات القيادي السابق حسن نجمي لتلقي الضوء مجددًا على أزمة مزمنة تسيطر على الحزب، حيث وصفه بـ”جثمان لم يُدفن بعد”، تعبير يجسد حالة الجمود والارتباك التي تعصف بالاتحاد، ويثير تساؤلات مصيرية حول مستقبله وقدرته على التجديد.
ملاحظة توضيحية
ينطلق هذا المقال من منطلق موضوعي ومحايد، بعيدًا عن التجريح أو الهجوم الشخصي، إذ يهدف إلى تشخيص التحديات التي تواجه الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية بشكل دقيق، تمهيدًا لإعادة النظر في سبل التجديد والارتقاء. فالتاريخ النضالي العريق للحزب يفرض علينا الوقوف عنده باحترام، مع الاعتراف بأن الإصلاح الداخلي هو الضمان الأبرز لاستمرارية دوره الوطني.
جذور الصراع: أزمة القيادة وتواتر الانتقادات
حسن نجمي، الذي كان من أبرز قياديي الحزب، لم يخف قلقه من واقع الحزب، مشيرًا إلى أن 90% من مناضليه خارج التنظيم الرسمي، وأن قيادة الحزب أصبحت بيد أشخاص غابت عنهم الروح الأصلية للاتحاد، ما يعكس هشاشة البنية التنظيمية وتراجع الروح النضالية. وأوضح أن الأزمة تعود إلى صراع مع الكاتب الأول إدريس لشكر، الذي اتهمه بأسلوب تدبير مركزي وانفراد بالقرار، ما خلق استياءً عميقًا داخل الحزب. هذا الصراع تجلى بوضوح في استقالة نجمي من المكتب السياسي سنة 2021.

ولا تقتصر الانتقادات على نجمي فقط، بل تعددت مواقف قياديين سابقين عبروا عن تخوفهم من “استفراد الكاتب الأول بالقرار” وتراجع الديمقراطية الحزبية، من بينهم عبد المقصود راشدي، الذي انسحب مؤقتًا احتجاجًا على طريقة اتخاذ القرار، لكنه عاد لاحقًا إلى ممارسة دوره في المجلس الوطني
في المقابل، رد إدريس لشكر الكاتب الأول لحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، على هذه الاتهامات مؤكداً احترام الحزب للديمقراطية الداخلية، وأن أعضاء المكتب السياسي يعملون بتطوع ودون أي تعويض مالي، كما أن انتخاب الأعضاء يتم وفق قواعد شفافة، حيث انتُخب حسن نجمي في المؤتمر الوطني العاشر بتصويت الأعضاء.

رد فتيحة سداس: صوت الوفاء والمسؤولية
وسط هذه الأجواء المشحونة، لم تكد تمر تصريحات حسن نجمي دون أن تثير رد فعل داخلي قوي. فتيحة سداس، عضوة المكتب السياسي، التي تربطها علاقة طويلة الأمد مع حسن نجمي على المستويات السياسية والثقافية والعائلية، خرجت عن صمتها وأكدت:
“في البداية أود أن أقول أنه ليس من عادتي أن أرد على أي أحد، ولكن هذه المرة لم أستطع، لأن ما يجمعني بحسن نجمي من علاقة تاريخية طويلة ومثينة، يمتزج فيها السياسي والثقافي والمدني، وكذلك العائلي، دفعتني لهذا الرد، الذي أتمنى من حسن أن يقبله مني، كما صبرت أنا على تدويناته وخرجاته السابقة في حقي كواحدة من قيادات الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية المعتزة بانتمائها وصمودها كل هذا التاريخ الطويل الذي يعرفه أكثر من غيره.
الأخ حسن نجمي، الذي تقاطعنا معه في زمن الالتزام، يدرك أن العلاقة التي جمعتنا لم تكن وليدة لحظة عابرة أو مصلحة ظرفية، بل تأسست في رحم الثقافة التقدمية، وتبلورت في مسارات العمل الجمعوي، الجامعة العمومية، وتَرسخت في محطات الفعل السياسي النبيل داخل الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، عندما كان الانتماء فكرةً نضالية، والموقعُ موقفًا مبدئيًا، والهويةُ التزامًا لا شعارًا.
نستحضر هذا المسار لا لنستعرض وقائع، بل لنؤكد على قيمة الوفاء التي شكلت ركيزة المدرسة الاتحادية، التي لا تبيع الأخوات والإخوان في لحظات الغياب، ولا تنكر الأدوار حين تتغير المواقع. يوم وجد الأخ نجمي نفسه خارج المؤسسة الحزبية أو مبتعدًا عنها، لم نتردد في دعمه، لا رغبة في رد الجميل، بل إيمانًا عميقًا بأن مشروعنا لا يُبنى بإقصاء مناضليه، بل باسترجاعهم إلى معركة الديمقراطية والحداثة.
لكن ما يحز في النفس اليوم، أن تُستبدل قيم الوضوح والنزاهة السياسية، بمنطق التلميح والتأويل، وأن يُعاد تركيب الوقائع خارج سياقها، في تماهٍ غير مبرر مع أساليب لا تليق بمن حمل معنا الهم الاتحادي، وفاوض إلى جانبنا على قضايا الوطن والحرية والكرامة.
نقولها بلغة الاتحاد: المدرسة الاشتراكية الديمقراطية تربي أبناءها على النقاش المسؤول، الاختلاف المؤطر، واحترام تاريخ الحزب وذاكرة مناضليه. نحن لا نرد على السجال بالسجال، بل نُذكّر بأن النضال الجماعي لا يُختزل في تدوينة ولا في خرجة إعلامية، وأن من اختار مغادرة السفينة الاتحادية، أو اختار طريقا آخرا لا يملك حق تسفيه أخواته وإخوانه من الخارج، الذي يوجد أكثر من 90% منهم ومنهن في المكتب السياسي، والذي يعرفهم ويعرفهن جيدا.

ليس في الاتحاد الاشتراكي من ينكر النقائص أو يدّعي الكمال، لكن ليس فيه أيضًا من يقبل بتزييف الذاكرة أو التشهير المجاني. الحزب، بقيادته ومناضليه من كل الأجيال، يشتغل في البرلمان، في الجماعات، في الجهات، في الأحياء الشعبية، وسط المواطنات والمواطنين، دفاعًا عن مشروع حداثي ديمقراطي، لا عن تموضعات فردية أو نزوات شخصية.
المثقفون اليساريون الحقيقيون يرتقون بالخطاب، يسمون فوق الحسابات الصغيرة، يُحصّنون المواقف، لا يطعنون في الظهر. فالمعركة اليوم ليست ضد الحزب، بل ضد الردة، ضد التبخيس، ضد تيارات التسلط والانغلاق.
ومن لا يدرك هذا، يحتاج كثيرا من الإنارة في الطريق المليء بالعتمة”.

رؤساء القيادة عبر الزمن: من عبد الرحيم بوعبيد إلى إدريس لشكر
يبرز التاريخ الحزبي سلسلة من الكُتّاب الأولين الذين قادوا الاتحاد الاشتراكي، بداية بالمؤسس عبد الرحيم بوعبيد (1975-1992)، الذي أسس الحزب على ركائز وطنية راسخة، ثم عبد الرحمان اليوسفي (1992-2001)، تلاه محمد اليازغي (2001-2003)، وعبد الواحد الراضي (2003-2008)، قبل أن يتولى إدريس لشكر القيادة منذ 2008 حتى اليوم. هذه السلسلة من القيادات تشكل صورة استمرارية الحزب وعمقه السياسي رغم التحديات والأزمات المتكررة.

الاستحقاقات المقبلة: المؤتمر الوطني الثاني عشر واستحقاقات 2026
يأتي المؤتمر الوطني الثاني عشر في وقت حرج، حيث يواجه الحزب اختبارًا حقيقيًا عبر إعادة ترتيب البيت الداخلي وتجديد القيادة، استعدادًا للاستحقاقات التشريعية والجماعية لسنة 2026، والتي تمثل فرصة لإعادة بناء الثقة واستعادة النفوذ.

التساؤلات تدور حول قدرة القيادة على احتواء الأصوات المعارضة والتجاوب مع حاجيات القواعد، وسط مناخ سياسي مليء بالتحديات، فهل سيكون المؤتمر نقطة انطلاق نحو وحدة وتجديد أم مزيد من الانقسامات والتراجع؟
صدى لفكرة لم تولد بعد
وسط هذا المناخ التنظيمي المضطرب، تتردد بعض الهمسات في أوساط يسارية عن احتمال ولادة مشروع سياسي جديد يستوحي من المرجعية التاريخية للاتحاد، دون أن يكون امتدادًا تنظيمياً له. هذه الفكرة، رغم حداثتها، تعكس رغبة في استعادة الروح النضالية الأصيلة، عبر مقاربة تدمج الطاقات الشابة والنضال الميداني برؤية ديمقراطية منفتحة ومتجددة.

ورغم أن هذه الأفكار لم تتحول إلى مبادرات سياسية معلنة، إلا أنها مؤشرات على عمق الأزمة البنيوية التي يعاني منها اليسار، والتحديات الحقيقية أمام عملية التجديد.

يبقى الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية في مفترق طرق حاسم، يتوقف مستقبله على قدرة قيادته ومناضليه على تحويل أزماته إلى فرص حقيقية للتجديد والارتقاء. ويأتي المؤتمر الوطني الثاني عشر والاستحقاقات القادمة لعام 2026 كاختبار حقيقي لقوة الحزب ومرونته في مواجهة تحديات المرحلة.
