بقلم: المصطفى العياش
سكرتير تحرير جريدة “كابريس”
في ظل عالم متغير يزداد فيه الاعتماد على التكنولوجيا يوماً بعد يوم، تصبح قضايا الأمن، بمختلف أبعادها، من أهم الملفات التي تتابعها جريدة “كابريس” بعمق واهتمام خاص. فالاستقرار الاجتماعي، والسلامة الرقمية، وحماية الأفراد والمؤسسات من مختلف أشكال التهديدات الأمنية، سواء كانت ميدانية أو تقنية، تشكل تحديًا حقيقيًا لا يمكن تجاوزه إلا بتضافر الجهود الوطنية والدولية، وباستخدام أحدث الأساليب العلمية والتقنية.
جريدة “كابريس” لا تكتفي فقط برصد التطورات الأمنية المحلية، بل تمتد أنظارها إلى كل ما يحدث في الساحة الدولية، خصوصًا في مجال الأمن السيبراني الذي بات محوراً استراتيجياً في حماية المجتمعات من الجرائم العابرة للحدود، التي تستهدف البنى التحتية الحيوية، والمؤسسات المالية، والأفراد على حد سواء.
وفي هذا الإطار، نُسلط الضوء اليوم على نجاح مغربي رائد يعكس نضج وتطور منظومتنا الأمنية، ويرسخ حضور المغرب في أروقة القرار الأمني العالمي. إنه الإنجاز الذي حققته العميد ليلى الزوين، رئيسة مصلحة مكافحة الجرائم المرتبطة بالتكنولوجيات الحديثة، والتي تم انتخابها نائبة رئيس الفريق الدولي لخبراء الإنتربول في مجال الجرائم السيبرانية.
هذا الانتخاب ليس مجرد لقب أو منصب، بل هو رسالة واضحة عن ثقة المجتمع الدولي في الكفاءات المغربية، وعن التحول النوعي الذي يعيشه جهاز الأمن الوطني في مواجهة التحديات الرقمية المعقدة. من خلال هذه التظاهرة الأمنية الدولية في ليون، تبرهن الزوين أن الأمن اليوم ليس فقط مسألة رجال أو أسلحة، بل هو معركة معرفة وتعاون وتمكين، يحجز فيها المغرب مكانه بين القوى العالمية الفاعلة.
شهد مقر المنظمة الدولية للشرطة الجنائية “إنتربول” بمدينة ليون الفرنسية، يوم أمس الخميس 5 يونيو 2025، لحظة مفصلية في مسار التعاون الدولي لمكافحة الجريمة السيبرانية، وذلك بانتخاب المملكة المغربية، ممثلة في عميد الشرطة الإقليمي ليلى الزوين، لمنصب نائبة رئيس الفريق الدولي لخبراء الإنتربول في مجال الجرائم السيبرانية.
ليلى الزوين، بصفتها رئيسة مصلحة مكافحة الجرائم المرتبطة بالتكنولوجيات الحديثة بالمديرية العامة للأمن الوطني، لم تمثل فقط مؤسسة أمنية وطنية، بل جسّدت حضورًا نسائيًا وازنًا في قلب أكبر شبكة شرطية عالمية.
من هي الإنتربول وما دورها في هذه المهمة؟
الإنتربول، أو “المنظمة الدولية للشرطة الجنائية”، تُعد أكبر منظمة شرطية متعددة الجنسيات في العالم، وتضم 195 دولة عضوًا. دورها الجوهري هو تنسيق التعاون الدولي بين أجهزة الأمن والشرطة عبر الحدود الوطنية، لمواجهة مختلف أشكال الجريمة، بدءًا من الإرهاب والاتجار بالبشر، وصولاً إلى الجرائم المالية والسيبرانية.
أما في ما يتعلق بالجرائم السيبرانية، فالإنتربول بات يُولي لهذا النوع من التهديدات أولوية قصوى، نظرًا للتوسع المهول في استخدام التكنولوجيا في ارتكاب الجرائم، وتزايد خطورة الهجمات الإلكترونية التي تستهدف البنيات التحتية الحيوية للدول والمؤسسات المالية والخدماتية وحتى الأفراد.
ومن هنا، أنشأت الإنتربول فريقًا دوليًا من الخبراء يُعنى بمكافحة الجرائم السيبرانية، يعمل على تطوير آليات التعاون، وتبادل المعلومات، وبناء القدرات الأمنية عالمياً، ضمن مقاربة متعددة الأطراف تجمع بين المعلومة، والخبرة، والتكنولوجيا، والقانون.
ما هي الجريمة السيبرانية؟ ولماذا يجب أن نقلق منها؟
الجرائم السيبرانية Cybercrime هي كل الأفعال الإجرامية التي تُرتكب عبر الإنترنت أو باستخدام أجهزة الكمبيوتر والهواتف الذكية والشبكات الرقمية. ويمكن أن تشمل:
الاحتيال الإلكتروني (الفيشينغ، سرقة الهوية…) ــ الابتزاز عبر الإنترنت ــ اختراق الأنظمة البنكية والمؤسسات الحكومية ــ الهجمات على البنيات التحتية الحساسة (الكهرباء، الماء، المطارات…) ــ التجسس السيبراني ــ استغلال الأطفال عبر الإنترنت
الخطر في الجريمة السيبرانية ليس في أنها تحدث “عن بُعد”، بل في صعوبة تتبع مرتكبيها، وتعدد جنسياتهم، وسرعة انتشار آثارها عبر القارات. ولهذا، فالاستجابة لها تتطلب تعاونًا دوليًا حقيقيًا يتجاوز حدود السيادة الوطنية، وهو الدور الذي يضطلع به الإنتربول، بشراكة مع الدول الأعضاء.
“التمكين” كمحور استراتيجي: دور الزوين في المرحلة المقبلة
اختيرت عميد الشرطة الإقليمي ليلى الزوين للإشراف على محور بالغ الأهمية داخل فريق خبراء الإنتربول، وهو محور “التمكين” أو autonomisation.
والمقصود هنا ليس التمكين بالمعنى العام، بل تمكين ثلاث فئات رئيسية:
1 ــ الضحايا: عبر ابتكار مساطر وقنوات حماية رقمية وقانونية تتيح لهم الإبلاغ، والمتابعة، والتعافي من آثار الجريمة.
2 ــ أجهزة الشرطة: من خلال التكوين والتدريب على أحدث تقنيات التتبع الرقمي وتحليل الأدلة الإلكترونية.
3 ــ أنظمة العدالة: عبر تطوير أدوات الإثبات والربط بين القانون الجنائي التقليدي والعالم الرقمي.
هذا التكليف يعكس ثقة دولية في الكفاءة الأمنية المغربية، ويبرز تحول المديرية العامة للأمن الوطني من فاعل وطني إلى شريك دولي موثوق في مكافحة التهديدات السيبرانية.
المغرب… شريك رقمي في الأمن العالمي
منذ سنوات، اختارت المديرية العامة للأمن الوطني بالمغرب الدخول في معركة رقمية لا هوادة فيها ضد الجريمة المنظمة والجرائم العابرة للحدود، وكان تأسيس مصالح متخصصة في مكافحة الجرائم المعلوماتية داخل بنيتها التنظيمية أحد تجليات هذا التوجه.
أما اليوم، فالوصول إلى منصب نائبة رئيس فريق خبراء الإنتربول في مجال الجرائم السيبرانية لا يمثل فقط تتويجًا لمجهود فردي لمواطنة مغربية من داخل المديرية، بل هو اعتراف دولي بمستوى النضج السيبراني الذي بلغه الأمن المغربي، وبمدى قدرته على الانخراط الفعلي في بناء أمن رقمي جماعي متعدد الأقطاب.
يبقى انتخاب ليلى الزوين داخل منظمة بحجم الإنتربول ليس حدثًا عابرًا، بل هو محطة رمزية تعني الكثير:
أن الأمن لم يعد فقط سلاحًا ورجالًا، بل معلومة وشبكة وخبرة رقمية.
أن النساء في سلك الأمن لم يعدن في الصفوف الخلفية، بل في مقاعد القيادة الدولية.
وأن المغرب، بتحديثه لجهاز أمنه، بات حاضرًا ضمن هندسة القرار الأمني العالمي.
إنها رسالة للعالم بأن المعركة ضد الجريمة السيبرانية لا تُربح إلا بالعلم، والتعاون، والتمكين… وهذا ما جاءته به الزوين من الرباط إلى ليون.
الاستراتيجية الملكية ودعم الحضور الأمني المغربي الدولي
ومن بين ما يعزز هذا التوجه المغربي، أن الاستراتيجية الملكية في مجال الأمن السيبراني كانت دائمًا قائمة على إدماج البعد الرقمي في حماية السيادة الوطنية، من خلال دعم التكوين، وتثمين الكفاءات، وتشجيع الحضور النوعي للمؤسسات الأمنية في المنظمات الدولية.
حضور الزوين اليوم هو امتداد لهذه الرؤية، وترجمة عملية لتوجيهات ملكية ظلت تشدد على الانخراط في المنظومات الأمنية العالمية، بما يضمن حماية المصالح الوطنية، ويدعم الاستقرار الدولي.
ففي عالم اليوم، حيث تتداخل الحدود التقليدية وتتعدد أشكال التهديدات، تبقى القدرة على بناء شراكات دولية قوية في مجال الأمن، خصوصًا الأمن الرقمي، من العوامل الحاسمة لضمان سلامة المجتمعات وحماية مستقبلها. المغرب، من خلال رمز أمني مثل العميد ليلى الزوين، يثبت أنه ليس فقط مشاركًا بل قائدًا في هذه المعركة، مواكبًا كل تطورات العصر، ومُرسخًا مكانته بين القوى الكبرى التي تحدد معالم أمن القرن الحادي والعشرين.